كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا يدل على أنهم لم يروا في كتاب اللّه تعالى تيمم الجنب، ولم يرشد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عمارا، لكنه كما أرشد عمر إلى الآية السيف مع ما فيها من الإشكال.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} الآية [58].
فيه دليل على وجوب رد الأمانة إذا طلبها مالكها، وقبل الطلب لا يخفى وجوب الرد، فإن في وجوب ردها قبل الطلب بطلان جواز الإمساك، وفيه بطلان مقصود الائتمان، وهو الحفظ المقصود للمالك وهذا عام في حق الجميع، وإن كان قوله تعالى من بعد: {وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، مخصوصا بالحكام، غير أن خصوص الآخر لا يرفع التعلق بعموم الأول على رأي كثير من الأصوليين وإن كان فيهم من يخالف مخالفة لها وجه حسن.
وقد روى أنس بن مالك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، أنه قال: «لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت».
ومثله قوله تعالى في قصة داود: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى} الآية.
وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ} إلى قوله: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}.
فأمر الحكام بهذه الخلال الثلاثة وأخذها عليهم.
أن لا يتبعوا الهوى.
وأن يخشوه ولا يخشوا الناس.
وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا.
قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} آية (59).
يحتمل أن يراد به الفقهاء والعلماء.
ويحتمل أن يراد به الأمراء، وهو الأظهر، لما تقدم من ذكر العدل في قوله: {وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}.
وقوله: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} يدل على أن أولي الأمر هم الفقهاء، لأنه أمر سائر الناس بطاعتهم، وأمر أولي الأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب اللّه، وسنة نبيه عليه السلام، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة.
وزعم قوم، أن المراد بأولي الأمر، علي والأئمة المعصومين، ولو كان كذلك ما كان لقوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} معنى، بل قال ردوه إلى الإمام وإلى أولي الأمر، فإن قوله هذا هو المحكم على الكتاب والسنة عند هؤلاء، لأنه تعالى أمرهم بطاعة أولي الأمر في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ولم يكن علي إماما على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وليس هذا من أحكام القرآن المتعلقة بالفقه، وإنما بيان ذلك في أصول الإمامة.
ووجوب طاعة الرسول، ليس متلقى من أدلة الفقه، وإنما هو مدلول المعجزة فقط.
قوله تعالى: {وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها} الآية [86].
ذكر الرازي أن في هذه الآية دلالة أن من ملك غيره شيئا بغير بدل فأراد الرجوع فيه، فله ذلك، ما لم يثبت منه، وإذا وهب لغير ذي رحم، فله الرجوع ما لم يثبت، ومتى أثبت فلا رجوع له فيها.
وهذا الاستنباط ركيك جدا، فإن في التحية ليس يرد تلك التحية، ولا إن ردها متصور، ولا أنه يمكن الرجوع فيها، وإنما قوله: {أَوْ رُدُّوها} أي ردوا مثلها فإن التحية في قضية العرف طلب الجواب فإذا لم يجب، كان إيحاشا، وأما الهبة فإنها تبرع، فلو اقتضت عوضا خرجت عن كونها تبرعا، بل كان معاوضا، وليس جواب التحية بأحسن منها، أو مثلا مخرجا للتحية عن موضعها.
قوله تعالى: {فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الآية [88].
هؤلاء كانوا أسلموا بمكة ولم يهاجروا، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين تقيه وتحببا إليهم.
قال اللّه تعالى: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
يعني يسلموا ويهاجروا، لأن الهجرة تتبع الإسلام، وهو كقوله تعالى: {ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا} وكل ذلك كان حالة كانت الهجرة فرضا.
وقال عليه السلام: «أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين، وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك، قيل: لم يا رسول اللّه؟ قال: لأبرأ آثارهما».
ثم نسخ فرض الهجرة.
وروى ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا».
وقال عليه السلام: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه».
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} الآية [90].
قال أبو عبيد: يصلون يعني ينسبون إليهم، والانتساب يكون بالخلف تارة، وبالرحم والولاء، وجائز أن يدخل في عهدهم على حسب ما كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بينه وبين قريش في الموادعة، فدخلت خزاعة في عهد النبي صلّى اللّه عليه وسلم، ودخلت بنو كنانة في عهد قريش ثم نسخت العقود بقوله تعالى: {بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} إلى قوله تعالى: {وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
وقال: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}، أي لكم مثل ما لهم، فإذا عقد الإمام عقد هدنة مع قوم من الكفار، فكل من يدخل في خبرهم من مناسيبهم بالحلف والرحم والولاء، داخل في عهدهم.
نعم، نسخ العهد مع المشركين بإعزاز اللّه الدين، وأمر المسلمين، بأن لا يقبلوا منهم إلا السيف أو الإسلام، بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فنسخ به الصلح والهدنة، وتقريرهم على الكفر، وأمر المسلمين بقتالهم، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، إن كانوا أهل كتاب، أو السيف أو الإسلام، إن لم يكونوا من أهل الكتاب.
فالمنسوخ ذلك العهد.. فإذا دعت حاجة الزمان إلى مهادنة الكفار من غير جزية يؤدونها إليه، فكل من انتسب إلى المعاهدين صار منهم واشتمل الأمان عليهم.
قوله تعالى: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً..} الآية [92].
معناه ما كان له ذلك في حكم اللّه تعالى.
واختلف الناس في معنى إلا، فقال قائلون هو استثناء منقطع بمعنى لكن، كأنه قال: لكن قد يقتله خطأ، فإذا قتله فحكمه كيت وكيت، والاستثناء المنقطع ذكروا له شواهد في أشعار العرب، مثل قول النابغة:
إلا الأواري، وغيره، وقد شرحناه في أصول الفقه.
وقال آخرون: هو استثناء صحيح، وفائدته أن له أن يقتله خطأ في بعض الأحوال، وهو أن يرى عليه لبسة المشركين والانحياز إليهم فيظنه مشركا، وقتله في هذا الوقت على هذا الوجه جائز، كما روى الزهري عن عروة بن الزبير، أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوم أحد، فأخطأ المسلمون يومئذ بأبيه يحسبونه من العدو، وتحاملوا عليه بأسيافهم، فطفق حذيفة يقول:
إنه أبي، فلا يفهموا قوله حتى قتلوه، فقال عنه ذلك: يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين، وبلغت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فزاد حذيفة عنده خيرا.
فأما قول من قال: إنه منقطع من كل وجه، وليس فيه معنى الاستثناء بوجه ما فهو بعيد، فإنه مكابرة النص، وإلا لابد أن يتحقق معناه على بعض الوجوه، إما مجازا وإما حقيقة، فأما إبطال وجه المجاز والحقيقة فتعطيل لا تأويل.
والذي ذكره من المعنى الثاني يقتضي أن يكون قتله مباحا من جهة اللّه تعالى إذا ظنه مشركا، وإذا ظنه مشركا فهو يتعمد قتله ولا يراه خطأ، وإذا قال اللّه تعالى: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} يقتضي أن يقال إنما يباح إذا وجد بشرط، وشرط الإباحة أن يكون خطأ، وإذا أبيح له على شرط، فلابد وأن يعلم وجود الشرط حتى تصح الإباحة، ولا يتصور أن يعلم أنه خطأ، فإنه لو علمه خطأ علم التحريم، فدل أن القتل ليس مباحا في هذه الحالة، فإنه لو كان مباحا كان مباحا على شرط، والشرط يجب أن يعلمه من أبيح له، ولأن من يجوز له دفعه عن نفسه، فكيف يكون مباحا له؟ ودفعه جائز، والذي أباحه اللّه تعالى، هو الذي إذا علم المرء حقيقة الحال كان مباحا، ويكون مباحا لمصلحة في النفس، وقتل المسلم المعصوم ليس من مصلحة حال، فليس مباحا إذن، فأقرب قول فيه أن يقال:
قوله تعالى: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا}، اقتضى تأثيم قاتله لاقتضاء النهي عن ذلك، فقوله إلا خطأ دفع المأثم عن قاتله، فإنما دخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من استحقاق المأثم، وأخرج منه قاتل الخطأ بالاستثناء، فالاستثناء مستعمل في حقيقته على هذا الوجه، فإنه يرجع إلى المأثم الذي هو يتضمن القتل.
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ}.
ورأى العلماء إيجاب تحرير الرقبة المؤمنة، والإيمان معتبرها هنا، لا لأن ذكر الإيمان ينفي من طريق الفحوى غيره من حيث الإسم، ولكن مقادير العبادات لا تعرف بالرأي والقياس، فليس يمكن أن يقال:
إن الرقبة المؤمنة إذا حررت، فأي قدر يتعلق به من الثواب، وعلى أي درجة هو من القربة، وأن ذلك القدر هل هو مقدم إليه، أم يحصل الاجزاء بغيره مما دونه؟ فلما لم يتصور إحاطة ظن المستنبطين به، لا جرم وجب الاقتصار على المذكور، ومنع إلحاق ما دونه به.
ومعلوم أن اعتاق الكافر دون اعتاق المؤمن، فليس لنا أن نقيسه عليه، فيتعين اتباع مورد النص وموضع الإسم، وهذا حسن بين.
والذي قيل فيه، إن معناه: أنه عجز شخص بقتله عن طاعة اللّه تعالى، فتعين عليه تحرير رقبة مثله، معنى ضعيف، فإنما نشترط صفة الإيمان في اعتاق الرقبة عن المقتول الكافر، فلا حاصل لهذا المعنى، وهذا بين في منع قياس الكافر على المؤمن.
ولو ورد النص في تحرير المؤمن بقتل المؤمن، ما جاز لنا أن نقيس الكافر عليه، ولا جاز أن نقول إذا قتل عليه مسلم كافرا، فيجب عليه إعتاق المؤمن، بل أمكن أن يقال يجزى الكافر عن الكافر، ولكن اللّه تعالى نص عليه في قوله: {وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.
إلا أنه إذا ثبت ذلك، فيظهر منه أن اعتبار الظهار واليمين بالقتل في هذا الحكم من طريق القياس بعيد، فإن الكفارات وضعت على أوضاع مختلفة: مثلا: التحرير في اليمين والظهار والقتل واحد، فوجب من كل واحد من هذه الأجناس، الرقبة على الصفة التي وجدت في الآخر من السلامة من العيب.
ثم الأصل أن يكون البدل قائما مقام الأصل، ومع هذا جعل بدل الرقبة في اليمين صيام ثلاثة أيام، وجعل في القتل والظهار صيام شهرين متتابعين، وقياس التفاوت في البدل، وقد استوت أوصاف البدل في الكفارات كلها، وقد جعل اللّه تعالى صوم ستين يوما معدلا بإطعام ستين مسكينا، وجعل في اليمين صيام ثلاثة أيام معدلا بإطعام عشرة مساكين، فكيف يتأتى الاعتبار مع اختلاف هذه الأوضاع؟
وعند ذلك اعتمد الشافعي في اشتراط الإيمان في تحرير الرقبة في كفارة الظهار، على حديث الأمة الخرساء وهو مشهور، وإن كان في القياس وجه يمكن تمشيته.
وقد ذكرنا في كتب الخلاف، أن اللّه تعالى ذكر صيام الشهرين المتتابعين، ثم قال: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}، ولم يكن من الخاطئ ما يقتضي التوبة، وقد قال تعالى: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}، مع أن التوبة حقيقتها الندم.